الحمد لله الذي من استعاذ به فقد عُصم، ومن نسيه فقد حُرم،
أما بعد:
نعلم أن الاستعاذة هي اللجوء والاعتصام ونعلم أنه يستعاذ بالله من
الشيطان ومن أمور كثيرة ، سنفصلها ومن ذلك الاستعاذة من عذاب القبر، فالاستعاذة منه
مشروعة في كل صلاة.
عن أم المؤمنين
عائشةـ رضي الله عنهاـ قالت: «يا رسول الله إن عجوزين من عجز يهود المدينة دخلتا عليّ فزعمتا أن أهل
القبور يعذبون في قبورهم، فقال: صدقتا، إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم، قالت: فما
رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر» [رواه مسلم].
الأدلة على عذاب القبر
دل كتاب الله على عذاب القبر حيث أخبر سبحانه وبحمده عن آل فرعون أنهم يعذبون في قبورهم
بسبب كفرهم وتمردهم على ربهم
ومخالفتهم لنبيهم موسى عليه السلام، قال تعالى (النار يعرضون عليها
غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة
أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافرـ 46].
وقد ذكر أهل التفسير أن هذا العرض يكون في القبر، ومن السنة النبوية عن
أنسـ رضي الله عنهـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا ألا تدافنوا لدعوت الله
أن يسمعكم من عذاب القبر» [رواه مسلم].
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه
إنه ليسمع قرع نعالهم، قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا
الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال: فيقال: انظر إلى مقعدك من
النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: فيراهما
جميعا» [رواه مسلم].
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة وكان من دعائه «وأعذه من عذاب
القبر».
مواضع الاستعاذة «من عذاب القبر» في الصلاة:
تكون الاستعاذة من عذاب القبر في نهاية التشهد الأخير في الصلاة كما ثبت
ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم
ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال» [رواه مسلم].
مستريح ومستراح منه
من آمن بربه وعمل
صالحا فموته راحة له من نصب الدنيا وعنائها وأما من لم يؤمن بربه ولم يعمل صالحا وسعى في الأرض
فسادا فموته راحة للبلاد والعباد منه.
مرحلة القبر
عندما صلى أعرابي خلف رجل وسمعه يقرأ قوله تعالى (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) قال: إن
الزيارة لا تدوم، ففهم أن اللبث في القبور لا يدوم ولكن بعده نشور، وجنة أو نار، بحسب
الأعمال ولكن هذه المرحلة مقدمة لما بعدها فقد، روي عن الخليفة الراشد عثمان بن عفانـ رضي الله عنهـ أنه
كان إذا وقف على القبر بكى ويقال له: لماذا تبكي؟ ويرد: القبر أول مرحلة من مراحل
الآخرة فمن نجا منه نجا فيما
بعد.
عذاب القبر ونعيمه
عذاب القبر ونعيمه أمر خفي على البشر ولله الحكمة في ذلك، وقد مر معنا في الحديث السابق أنه
لو رآه البشر أو سمعوه لأحجموا عن دفن موتاهم، ويكون في الإطلاع على ما يحصل للموتى
فضيحة لهم، والله عز وجل يستر على كثير من عباده في الدنيا والآخرة وأيضا أمور
الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا ولكل مرحلة أحوالها ونحن في عالمنا المحسوس نجد أن
النائم يحلم بنعيم يتلذذ به في نومه ولا يشعر به من بجانبه حتى أنه عندما يستيقظ يتمنى
أنه لم يستيقظ واستمر في عالمه الذي كان فيه ولا يدركه من حوله، ولو أن النائم
كان في حلم مزعج لم يشعر به من بجانبه وعندما يستيقظ يحمد الله على نهاية ذلك
الحلم الذي كاد يقتله من شده آلامه التي أحدثها في نفسه، ويسر لمغادرته ذلك العالم
الذي كان فيه.
والله عز وجل
لا يسئل عما يفعل، وليس من الواجب عليه أن يطلع البشر على كل صغيرة
وكبيرة من أسرار مخلوقاته،
والإنسان تخفى عليه أمور كثيرة، فمنها روحه التي يعيش بها فهو عاجز عن معرفة كنهها، قال تعالى
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) [الإسراءـ 85]، ويكون الاختبار
في الدنيا هو بالإيمان بالمغيبات كما قال تعالى (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب)،
ولو كشف لما صار غيبا يحصل
الاختبار به، ونحمد الله الذي أرسل الرسل لهداية البشرية إلى ربها
وعلينا بالاستعداد
بالإيمان بالله وبما أخبر به وأن نعمل صالحا، وأن نتذكر مرحلة القبر حتى لا نعصي ولا نطغى، قال
شاعر الزهد:
ما لي مررت على القبور مسلما
قبر الحبيب فلم
يرد جوابي
لو كان ينطق بالجواب لقال لي
أكل التراب محاسني وشبابي
وسيكون أحدنا وحيدا في قبره، لا مال، ولا أهل، ولا أصحاب إلا صاحب واحد وهو «العمل»، فإن
كان عملا صالحا فأنعم به من صاحب، وسترى ما يسرك وإن كان عملا سيئا فالخيبة والخسران، فلنستعذ بالله من
عذاب القبر كما ورد نهاية كل تشهد في صلاة الفرض والنفل قبل السلام ونعد العدة لتلك
المرحلة القادمة عما قريب بفعل ما يرضي الله والبعد عما يغضبه من فعل الباطل أو نصرة
أهله أو تمكينهم من أي وسيلة
تنشر ظلامهم وخزعبلاتهم التي لم يشرعها الله ولم يرضاها بل أمر بإنكارها
وإظهار بطلانها للناس
أسأل الله أن يعلي كلمته وينصر أهل التوحيد ونسأله جل وعلا أن يبعدنا عن الغفلة التي تكون سببا
في تقصيرنا بحقه، وأن يجعل قبورنا رياضا من رياض الجنة، وأن يسعدنا وإياكم في الدنيا والآخرة وصلى الله
على نبينا محمد وآله وصحبه
أجمعين.